كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



على أن الحجة الثانية على ما قرره حجه غير تامة فإن الحركة إنما تدل على حدوث المتحرك من حيث وصفه وهو التحرك لا من حيث ذاته، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله، والمصير إلى ما قدمناه في تقرير الحجة من جهة الحركة.
ورابعا أن إبراهيم عليه السلام إنما ساق هذه الحجج بحسب ما كان الله سبحانه يريه ملكوت السماوات والأرض، وبحسب ما يسمح له جريان محاجته أباه وقومه آخذا بالمحسوس المعاين إما لأنه لم يكن رأى تفصيل الحوادث السماوية والارضية اليومية كما تقدمت إلاشارة إليه أو لأنه أراد أن يحاجهم بما تحت حسهم فأورد قوله: {هذا ربى} لما شاهد شيئا من الاجرام الثلاثة لامعا بازغا، وأورد قوله: {لا أحب الآفلين} أو ما في معناه لما شاهد افولها.
وبذلك يظهر الجواب عما يمكن أن يقال: إن قوله: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا} يدل على أنه عليه السلام كان في النهار المتصل بذلك الليل شاهد قومه فما باله لم يذكر الشمس لينفى ربوبيتها.
فإن من المحتمل أن يكون قد خرج إلى قومه للمحاجة والوقت لا يسع أزيد مما حاج به أباه وقومه في أمر الأصنام فكان يحاجهم طول النهار أو مدة ما أدركه من النهار عند قومه حتى إذا تمم الحجاج لم يلبث دون أن جن عليه الليل، وهناك محتملات أخر كغيم في الهواء أو حضور قومه للصلوات والقرابين في أول الطلوع فحسب وقد كان يريد أن يواجههم فيما يلقيه إليهم.
وخامسأ: أن الآيات كما قيل تدل على أن الهداية من الله سبحانه وأما الإضلال فلم ينسب إليه تعالى في هذه الآيات بل دل قوله: {لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضالين} بعض الدلالة على أن من شأن الإنسان بحسب ما يقتضيه نقص نفسه أن يتصف بالضلال لو لم يهده ربه، وهو الذي يستفاد من قوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منها من أحد أبدا} [والنور: 21] وقوله: {إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء} [القصص: 56] إلى غير ذلك من الآيات.
نعم هناك آيات تنسب إليه تعالى الإضلال لكن أمثال قوله: {وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] تبين أن الضلال المنسوب إليه تعالى هو الإضلال الواقع بحسب المجازاة دون الإضلال الابتدائي، وقد تقدم البحث في تفسير الآية في الجزء الأول من هذا الكتاب.
وسادسا: أنه عليه السلام أخذ في حجته لابطال ربوبية الاجرام الثلاثة أنه لا يحب الافل لافوله وهو أن يفقده الإنسان بعد أن يجده فهو الوصف الذي لا يتعلق به الحب المسوغ للعبادة، وإذ كان ذلك وصفا مطردا في جميع الجسمانيات التي تسير إلى الزوال والفوت والهلاك والبيد كانت الحجة قاطعة على كل شرك ووثنية حتى على ما يظهر من بعض الوثنيين من القول بالوهية أرباب الانواع والموجودات النورية التي يذعنون بوجودها وأنها فوق المادة والطبيعة متعالية عن الجسمية والحركة فإنهم يصرحون بأنها على ما لها من صفاء الجوهر وشرف الوجود مستهلكة تجاه النور القيومى، مستذلة تحت القهر الاحدى، وإذ كان هذه صفة ما يدعونه فلو توجه تلقاءها حب لم يتعلق إلا بمن يدبر أمرها ويصلح شأنها لا بها.
قوله تعالى: {إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض} إلى آخر الآية.
ذكر الراغب في المفردات: أن أصل الفطر الشق طولايقال: فطر فلان كذا فطرا وأفطر هو فطورا وانفطر انفطار قال: هل ترى من فطور أي اختلال ووهى فيه، وذلك قد يكون على سبيل الفساد، وقد يكون على سبيل الصلاح قال: السماء منفطر به كان وعده مفعولا.
وفطرت الشاة حلبتها باصبيعين، وفطرت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته، ومنه الفطرة، وفطر الله الخلق وهو إيجاده الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال فقوله: فطرة الله التي فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من معرفته تعالى، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان وهو المشار إليه بقوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، انتهى.
وذكر أيضا: أن الحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة والجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال قال: وسمت العرب كل من حج أو اختتن حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم عليه السلام والاحنف من في رجله ميل، قيل: سمى بذلك على التفاؤل وقيل: بل استعير للميل المجرد، انتهى.
لما تبرأ عليه السلام من شركهم وشركائهم بقوله: {يا قوم إنى برئ} الخ، وقد سلك إليه تدريجا بإظهار عدم تعلق قلبه بالشريك حيث قال: {لا أحب الآفلين} ثم الايماء إلى كون عبادة الشريك ضلالا حيث قال: {لئن لم يهدنى ربى لاكونن من القوم الضالين} ثم التبرى الصريح من ذلك بقوله: {يا قوم إنى برئ مما تشركون} رجع إلى توحيده التام في الربوبية، وهو إثبات الربوبية والمعبودية للذى فطر السماوات والأرض، ونفى الشرك عن نفسه فقال: {إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض حنيفا}.
فتوجيه الوجه كناية عن الاقبال إلى الله سبحانه بالعبادة فإن لازم العبودية والمربوبية أن يتعلق العبد المربوب بربه في قوته وإرادته، ويدعوه ويرجع إليه في جمع أعماله، ولا يكون دعاء ولا رجوع إلا بتوجيه الوجه والاقبال إليه فكنى بتوجيه الوجه عن العبادة التي هي دعاء ورجوع وذكر ربه وهو الله سبحانه الذي وجه وجهه إليه، بنعته الذي يخصه بلا نزاع فيه وهو فطر السماوات والأرض، وجاء بالموصول والصلة ليدل على العهد فلا يشتبه الأمر على أحد منهم فقال: للذى فطر السماوات والأرض أي إنى أقبلت بعبادتي على من ينتهى إليه إيجاد كل شيء وإبداعه، وهو الذي يثبته ويثبتونه فوق الجميع.
ثم نفى غيره مما يدعونه شريكا بقوله: {حنيفا} أي مائلا إليه عن غيره نافيا للشريك عنه، وأكده بقوله: {وما أنا من المشركين} فأفاد مجموع قوله: {وإنى وجهت} الخ، إثبات المعبودية لله تعالى ونفى الشريك عنه قريبا مما تفيده الكلمة الطيبة: لا إله الا الله.
واللام في قوله: {للذى} للغاية وتفيد معنى إلى، وكثيرا ما تستعمل في الغاية اللام كما تستعمل (إلى) قال: {أسلم وجهه لله} [البقرة: 112] {ومن يسلم وجهه إلى الله} [لقمان: 22].
وفي تخصيص فطر السماوات والأرض من بين صفاته تعالى الخاصة وكذا من بين الالفاظ الدالة على الخلقة كالباري والخالق والبديع إشارة إلى ما يؤثره إبراهيم عليه السلام من دين الفطرة وقد كرر توصيف هذا الدين في القرآن الكريم بأنه دين إبراهيم الحنيف ودين الفطرة أي الدين الذي بنيت معارفه وشرائعه على خلقة الإنسان ونوع وجوده الذي لا يقبل التبدل والتغير فإن الدين هو الطريقة المسلوكة التي يقصد بها الوصول إلى السعادة الحقيقية والسعادة الحقيقية هي الغاية المطلوبة التي يطلبها الشيء حسب تركب وجوده وتجهزه بوسائل الكمال طلبا خارجيا، واقعيا وحاشا أن يسعد الإنسان أو أي شيء آخر من الخليقة بأمر ولم يتهيأ بحسب خلقته له أو هيئ لخلافه كأن يسعد بترك التغذى أو النكاح أو ترك المعاشرة والاجتماع وقد جهز بخلافها، أو يسعد بالطيران كالطير أو بالحياة في قعر البحار كالسمك ولم يجهز بما يوافقه.
فالدين الحق هو الذي يوافق بنواميسه الفطرة وحاشا ساحة الربوبية أن يهدى الإنسان أو أي مخلوق آخر مكلف بالدين- ان كان- إلى غاية سعيدة مسعدة ولا يوافق الخلقة أو لم يجهز بما يسلك به إليها فإنما الدين عند الله الإسلام وهو الخضوع لله بحسب ما يهدى إليه ويدل عليه صنعه وإيجاده.
قوله تعالى: {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان}.
قسم تعالى حججه عليه السلام إلى قسمين: أحدهما ما بدأ به هو فحاج الناس، وثانيهما ما بدأ به الناس فكلموه به بعد ما تبرأ من آلهتهم، وهذا الذي تعرض له في الآية وما بعده هو القسم الثاني.
لم يذكر تعالى ما أوردوه عليه من الحجة لكنه لوح إليه بقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {ولا أخاف ما تشركون به} فهو الاحتجاج لوجوب عبادة آلهتهم من جهة الخوف وقد تقدم وسيجئ أن الذي بعثهم إلى اتخاذ الالهة وعبادتها أحد أمرين: الخوف من سخطها وقهرها بما لها من السلطة على حوادث العالم الارضى، أو رجاء البركة والسعادة منها، وأشد الأمرين تأثيرا في نفوسهم هو الأمر الأول أعنى الخوف وذلك أن الناس بحسب الطباع يرون ما بأيديهم من النعمة والسعادة المادية ملك أنفسهم إما مرهون جهدهم في سلوك سبيل المعاش في اقتناء الاموال واكتساب المقام والجاه أو مما ملكهم إياه الجد الرفيع أو البخت السعيد كمن ورث مالا من مورثه أو صادف كنزا فتملكه أو ساد قومه برئاسة أبيه.
فطريق الرجاء قليل التأثير في وجوب العبودية حتى أن المسلمين مع ما بأيديهم من التعليم الكامل الإلهى يتأثرون من الوعد والبشارة أقل مما يتأثرون من الوعيد والإنذار، ولذلك بعينه نرى أن القرآن يذكر الإنذار من وظائف الأنبياء أكثر من ذكر التبشير، وكلا الامرين من وظائفهم والطرق التي يستعملونها في الدعوة الدينية.
وبالجملة اختار قوم إبراهيم عليه السلام في محاجتهم إياه عند ما كلموه في أمر الالهة سبيل الخوف فأرهبوه من قهر الالهة وسخطها ووعظوه بسلوك سبيلهم ولزوم طريقهم في التقرب بالالهة ورفض القول بربوبية الله سبحانه، وإثباته في المقام الذي أثبتوه فيه وهو أنه الذي ينتهى إليه الكل فحسب.
ولما وجد عليه السلام كلامهم ينحل إلى جزأين: الردع عن القول بربوبية الله سبحانه والتحريض على القول بربوبية آلهتهم احتج عليهم من الجهتين جميعا لكن لا غنى للجهة الأولى عن الثانية كما سيجئ.
وما أورده في الاحتجاج على حجاجهم في الله سبحانه هو قوله: {أتحاجوني في الله وقد هدان} أي إنى واقع في أمر مفروغ عنه ومهتد بهداية ربى حيث آتانى العلم بما أرانى من ملكوت السماوات والأرض وألهمنى بذلك حجة أنفى بها ربوبية غيره من الأصنام والكواكب، وأنى لا أستغنى عن رب يدبر أمرى فأنتج لى أنه هو الرب وحده لا شريك له، وإذ هداني إليه فأنا في غنى عن الاصغاء إلى حجتكم والبحث عن الربوبية ثانيا فإن البحث إنما ينفع الطالب ولا طلب بعد الوصول إلى الغاية.
هذا ما يعطيه ظاهر الآية بالتبادر إلى الذهن لكن هناك معنى أدق من ذلك يظهر بالتدبر وهو أن قوله: {وقد هدان} استدلال بنفس الهداية لا استغناء بالهداية عن الاستدلال وتقريره: أن الله هداني بما علمني من الحجة على نفى ربوبية غيره وإثبات ربوبيتة، ونفس هدايته دليل على أنه رب ولا رب غيره فإن الهداية إلى الرب من جملة التدبير فهى شأن من هو رب، ولو لم يكن الله سبحانه هو ربى لم يكن ليهدينى ولا قام بها إلى الذي هو الرب لكن الله هو هداني فهو ربى.
ولم يكن لهم أن يقولوا: إن الذي علمك ما علمت وألهمك الحجة هو بعض آلهتنا لأن الشيء لا يهدى إلى ما يضره ويميت ذكره ويفسد أمره فاهتداؤه عليه السلام إلى نفى ربوبيتها لا يصح أن ينسب إليها، هذا.
ولكن كان لهم أن يقولوا أو أنهم قالوا: إن ذلك من فعل بعض آلهتنا فعل بك ذلك قهرا وسخطا أبعدك عن القول بربوبيتها ولقنك هذه الحجج لما وجد من فساد رأيك وعلة نفسك نظير ما شافهت به عاد هودا عليه السلام لما دعاهم إلى توحيد الله سبحانه واحتج عليهم بأن الله هو الذي يجب أن يرجى ويخاف، وأن آلهتهم لا تنفع ولا تضر فردوا عليه بأن بعض آلهتنا اعتراك بسوء قال تعالى في قصتهم حكاية عن هود عليه السلام: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة الى قوتكم ولا تتولوا مجرمين قالوا يا هود} إلى أن قال: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إنى أشهد الله وأشهدوا إنى برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون} [هود: 55].
فقوله عليه السلام: {ولا أخاف ما تشركون به} الخ، ينفى هذه الشبهة وكما أنه ينفى هذه الشبهة فإنه حجة تامة تنفى ربوبية شركائهم.
ومحصله: أنكم تدعونني إلى القول بربوبية شركائكم ورفض القول بربوبية ربى بما تخافوننى من ان تمسني شركاؤكم بسوء، وترهبوننى بإلقاء الشبهة فيما اهتديت به، وإنى لا أخاف ما تشركون به لانها جميعا مخلوقات مدبرة لا تملك نفعا ولا ضرا وإذ لم اخفها سقطت حجتكم وارتفعت شبهتكم.
ولو كنت خفتها لم يكن الخوف الحاصل في نفسي من صنع شركائكم لانها لا تقدر على شيء بل كان من صنع ربى وكان هو الذي شاء ان اخاف شركاءكم فخفتها فكان هذا الخوف دليلا آخر على ربوبيته وآية أخرى من آيات توحيده يوجب إخلاص العبادة له لا دليلا على ربوبية شركائكم وحجة توجب عبادتها.
والدليل على ان ذلك من ربى أنه وسع كل شيء علما فهو يعلم كل ما يحدث ويجرى من خير وشر في مملكته التي أوجدها لغايات صحيحة متقنة، وكيف يمكن ان يعلم في ملكه بشئ ينفع أو يضر فيسكت ولا يستقبله بأحد امرين: إما المنع أو الإذن؟.
فلو حصل في نفسي شيء من الخوف لكان بمشية من الله وإذن على ما يليق بساحة قدسه، وكان ذلك من التدبير الدال على ربوبيته ونفى ربوبية غيره أفلا تتذكرون وترجعون إلى ما تدركونه بعقولكم وتهدى إليه فطرتكم.
فهذا وجه في تقرير الحجة المودعة في قوله: {ولا اخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى وسع ربى كل شيء علما أفلا تتذكرون} وعلى ذلك فقوله: {ولا أخاف ما تشركون به} كالمتمم للحجة في قوله: {أتحاجوني في الله وقد هدان} وهو مع ذلك حجة تامة في نفسه لابطال ربوبية شركائهم بعدم الخوف منها، وقوله: {إلا أن يشاء ربى شيئا} كالكلام في الحجة على تقدير التسليم أي تحتجون على وجوب عبادتها بالخوف ولا خوف في نفسي، ولو فرض خوف لكان دليلا على ربوبية ربى لا على ربوبية شركائكم فإنه عن مشية من ربى، قوله: {وسع ربى كل شيء علما} وتعليل لكون الخوف المفروض مستندا إلى مشية ربه فإن فاطر السماوات والأرض لا يجهل ما يقع في ملكه فلا يقع إلا بإذن منه فهو الذي يدبر امره ويقوم بربوبيته، وقوله: {أفلا تتذكرون} استفهام توبيخي وإشارة إلى أن الحجة فطرية، هذا.
وللمفسرين في الآية أقوال: أما قوله تعالى: {قال أتحاجوني في الله وقد هدان} فقد أورد اكثرهم فيه الوجه الأول من الوجهين اللذين قدمناهما، ومحصله أنه يرد اعتراضهم على توحيده بأنه غنى عن المحاجة في ذلك فإن الله هداه ولا حاجة معها إلى المحاجة لكن ظاهر السياق أنه في مقام المحاجة ولازمه ان كلامه احتجاج للتوحيد الاستغناء عن الاحتجاج.